كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنها دورة دائبة عجيبة رهيبة لن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير، ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله.
{وكذلك تخرجون}. فالأمر عادي واقعي لا غرابة فيه وليس بدعًا مما يشهده الكون في كل لحظة من لحظات الليل والنهار في كل مكان!
{ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}.
والتراب ميت ساكن؛ ومنه نشأ الإنسان. وفي موضع آخر في القرآن جاء: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} فالطين هو الأصل البعيد للإنسان. ولكن هنا يذكر هذا الأصل ويعقبه مباشرة بصورة البشر منتشرين متحركين. للمقابلة في المشهد والمعنى بين التراب الميت الساكن والبشر الحي المتحرك. وذلك بعد قوله: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} تنسيقًا للعرض على طريقة القرآن.
وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة، وإيحاء كذلك بالصلة الوثيقة بين البشر وهذه الأرض التي يعيشون عليها؛ والتي يلتقون بها في أصل تكوينهم، وفي النواميس التي تحكمها وتحكمهم في نطاق الوجود الكبير.
والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر. نقلة تثير التأمل في صنع الله؛ وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله؛ وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم.
ومن مجال الخلقة الأولى لنوع البشر ينتقل إلى مجال الحياة المشتركة بين جنسي البشر:
{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين؛ وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة. ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجًا، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكنًا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأنسًا للأرواح والضمائر واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء.
والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصور هذه العلاقة تصويرًا موحيًا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: {لتسكنوا إليها}. {وجعل بينكم مودة ورحمة}.
{إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}. فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقًا للآخر. ملبيًا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية. بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار؛ ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد.
{ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}.
وآية خلق السماوات والأرض كثيرًا ما يشار إليها في القرآن، وكثيرًا ما نمر عليها سراعًا دون أن نتوقف أمامها طويلًا. ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق.
إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق؛ الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات. تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل! ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات؛ وما بينهما من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب؛ وتجعل كل شيء في أمرها بمقدار.
ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها؛ والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها. فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان؛ وما عرف عنه إلا أقل من القليل، ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل!
هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعًا.
بينما نتحدث طويلًا. وطويلًا جدًا. عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر. ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء! من العلماء!
ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان. بين بني الإنسان. ولابد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض. فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات ذلك الاختلاف الناشئ من طبيعة وضع الأرض الفلكي، ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان. مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان.
وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والألوان؛ ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله، وآياته في خلق السماوات والأرض. وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية. ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن. ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون. {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا}. وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لا يراها إلا الذين يعلمون: {إن في ذلك لآيات للعالمين}.
{ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}.
وهذه آية كذلك تجمع بين ظواهر كونية وما يتعلق بها من أحوال البشرية، وتربط بين هذه وتلك. وتنسق بينهما في صلب هذا الوجود الكبير. تجمع بين ظاهرتي الليل والنهار ونوم البشر ونشاطهم ابتغاء رزق الله، الذي يتفضل به على العباد، بعد أن يبذلوا نشاطهم في الكد والابتغاء، وقد خلقهم الله متناسقين مع الكون الذي يعيشون فيه؛ وجعل حاجتهم إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار؛ وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام. مثلهم مثل جميع الأحياء على ظهر هذا الكوكب على نسب متفاوتة في هذا ودرجات. وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة.
{إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}. والنوم والسعي سكون وحركة يدركان بالسمع. ومن ثم يتناسق هذا التعقيب في الآية القرآنية مع الآية الكونية التي تتحدث عنها على طريقة القرآن الكريم.
{ومن آياته يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني؛ ويعللها بعضهم بأنها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء، أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلًا. ينشأ عنها تفريغ في الهواء يتمثل في الرعد الذي يعقب البرق. وفي الغالب يصاحب هذا وذلك تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم. وأيًا ما كان السبب فالبرق ظاهرة ناشئة عن نظام هذا الكون كما خلقه البارئ وقدره تقديرا.
والقرآن الكريم حسب طبيعته لا يفصل كثيرًا في ماهية الظواهر الكونية وعللها؛ إنما يتخذ منها أداة لوصل القلب البشري بالوجود وخالق الوجود. ومن ثم يقرر هنا أنها آية من آيات الله أن يريهم البرق {خوفًا وطمعًا}. وهما الشعوران الفطريان اللذان يتعاوران النفس البشرية أمام تلك الظاهرة. شعور الخوف من الصواعق التي تحرق الناس والأشياء أحيانًا عندما يبرق البرق. أو الخوف الغامض من رؤية البرق وما يوقعه في الحس من الشعور بالقوة المصرفة لهيكل هذا الكون الهائل. وشعور الطمع في الخير من وراء المطر الذي يصاحب البرق في معظم الأحوال؛ والذي عقب بذكره في الآية بعد ذكر البرق: {وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها}.
والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حيّ، يحيا ويموت. وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم. فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة، مطيعة لربها خاضعة خاشعة، ملبية لأمره مسبحة عابدة. والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه، يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين.
ذلك كله بالإضافة إلى أن الماء حين يصيب الأرض، يبعث فيها الخصب، فتنبت الزرع الحي النامي؛ وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة في هذا النبات. ومن ثم في الحيوان والإنسان. والماء رسول الحياة فحيث كان تكون الحياة.
{إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}. فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكير.
{ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون وله من في السماوات والأرض كل له قانتون}.
وقيام السماء والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بقدرة من الله وتدبير. وما من مخلوق يملك أن يدعي أنه هو أو سواه يفعل هذا. وما من عاقل يملك أن يقول: إن هذا كله يقع بدون تدبير. وإذن فهي آية من آيات الله أن تقوم السماء والأرض بأمره، ملبية لهذا الأمر، طائعة له، دون انحراف ولا تلكؤ ولا اضطراب.
{ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون}.
ومن يرى هذا التقدير في نظام الكون، وهذه السلطة على مقدراته، لا يشك في تلبية البشر الضعاف لدعوة تصدر إليهم من الخالق القادر العظيم، بالخروج من القبور!
ثم يأتي الإيقاع الأخير ختامًا لهذا التقرير؛ فإذا كل من في السماوات والأرض من خلائق قانتون لله طائعون.
{وله من في السماوات والأرض كل له قانتون}.
ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين. ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد. فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا كافرين.
إنما تعصى عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت.
ثم يختم تلك الجولة الضخمة الهائلة اللطيفة العميقة بتقرير قضية البعث والقيامة التي يغفل عنها الغافلون:
{وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}.
وقد سبق في السورة تقرير البدء والإعادة، وهو يعاد هنا بعد تلك الجولة العريضة ويضاف إليه جديد: {وهو أهون عليه} وليس شيء أهون على الله ولا أصعب.
{إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} ولكنه إنما يخاطب الناس بحسب إدراكهم، ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته، فما بالهم يرون الإعادة عسيرة على الله. وهي في طبيعتها أهون وأيسر؟!
{وله المثل الأعلى في السماوات والأرض}. فهو سبحانه ينفرد في السماوات والأرض بصفاته لا يشاركه فيها أحد، وليس كمثله شيء، إنما هو الفرد الصمد.
{وهو العزيز الحكيم}. العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد. الحكيم الذي يدبر الخلق بإحكام وتقدير.
وعندما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد، والأعماق والأغوار، والظواهر والأحوال، يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد:
{ضرب لكم مثلًا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}.
ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقًا من خلقه: جنًا أو ملائكة أو أصنامًا وأشجارًا. وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال. ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار. فيبدو أمرهم عجبًا. يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده. ويأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم. وما لهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله. وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير.
وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة: {ضرب لكم مثلًا من أنفسكم} ليس بعيدًا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره. {هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء}. وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلًا على أن يساووهم فيه {تخافونهم كخيفتكم أنفسكم}. أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار، وتخشون أن يجوروا عليكم، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم، لأنهم أكفاء لكم وأنداد؟ هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص؟ وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى؟
وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم: {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}.
وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة، يكشف عن العلة الأصيلة في هذا التناقض المريب: إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير:
{بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين}.
والهوى لا ضابط له ولا مقياس. إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة، ورغباتها ومخاوفها. وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان. وهو الضلال الذي لا يرجى معه هدى، والشرود الذي لا ترجى معه أوبة: {فمن يهدي من أضل الله} نتيجة لاتباعه هواه؟ {وما لهم من ناصرين} يمنعونهم من سوء المصير.
وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة؛ ويتجه بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعًا وأحزابًا مع الأهواء والنزوات!
{فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون}.
هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده، وفي موضعه، بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده، وفي أغوار النفس وفطرتها. يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله؛ كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل، ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح. وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن. السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس.
{فأقم وجهك للدين حنيفًا}. واتجه إليه مستقيمًا. فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق، ولا تستمد من علم، إنما تتبع الشهوات، والنزوات بغير ضابط ولا دليل. أقم وجهك للدين حينفًا مائلًا عن كل ما عداه، مستقيمًا على نهيه دون سواه:
{فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}. وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين؛ وكلاهما من صنع الله؛ وكلاهما موافق لناموس الوجود؛ وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف. وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. والفطرة ثابتة والدين ثابت: {لا تبديل لخلق الله}. فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة.
فطرة البشر وفطرة الوجود.
«ذلكَ الدّينُ الْقَيّمُ. وَلكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يَعْلَمُونَ». فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم.
والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم، ولو أنه موجه إلى الرسول- صلّى اللّه عليه وسلّم- إلا أن المقصود به جميع المؤمنين. لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلا معنى إقامة الوجه للدين:
«مُنيبينَ إلَيْه وَاتَّقُوهُ وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا منَ الْمُشْركينَ». اهـ.